حذارمن التضحية بمدنية الدولة
د . نادر فرجانى
4
323
طباعة المقال
توالت الإعلانات الصادرة عن لجنة الخمسين بالاتفاق علي مواد رائعة حقا في الدستور تسعي لضمان الحريات والكرامة الإنسانية, واستقلال وسائل الإعلام, والنص علي منع قيام أحزاب علي اساس ديني
وإن كان هذا المنع يتعين ليفلح أن يستكمل بالنص علي منع المراوغة باسم المرجعية الإسلامية وتنافس هذه الأحزاب في الانتخابات بتوظيف الإغراء والغواية الدينية المخادعين منعا باتا.. هذا بينما لا نسمع نطقا صريحا حول الموضوع الخلافي الحاسم أي هوية الدولة.
إن مدنية الدولة ركن أساس للحكم الديمقراطي السليم الكفيل وحده بنيل غايات الثورة الشعبية العظيمة في الحرية والعدل والكرامة الإنسانية. وعلي التحديد تعني مدنية الدولة ألا تكون دينية أو عسكرية, فالتنظيمات الدينية والعسكرية كلاهما يعاديان الديمقراطية السليمة. أما في الدولة المدنية, فلا تعلو سلطة علي الشعب صاحب السيادة الأوحد ومصدر السلطات جميعا. ومصدر الخطر في التضحية بمدنية الدولة هو أن كل النصوص الرائعة التي أعلنت عنها لجنة الخمسين من ضمانات الحريات والكرامة الإنسانية قد تهدر لدرجة أو أخري إن سمحت نصوص مواد الهوية بسيطرة عصبة دينية أو عسكرية النزعة علي مقدرات الدولة والشعب خلافا لمقتضيات الدولة المدنية.
لقد ترددت في كتابة هذا المقال, إشفاقا علي الحكومة المؤقتة, الرئاسة ووزارتها واللجان التي انشأتها لتعديل الدستور, والتي تتعرض لهجوم كاسح بسبب إخفاقها الشديد في نظر كثير من المصريين المهتمين بالشأن العام, ولأنني أظن أن الشعب مستعد لتحمل جل إخفاقات الحكومة المؤقتة أملا في دستور يليق بالثورة الشعبية العظيمة باعتباره حجر الزاوية في إنجاح خريطة المستقبل التي توجت الموجة الثانية الكبيرة من الثورة الشعبية العظيمة, لكن فاض الكيل بسبب قيام مخاوف من أن تضحي لجنة الخمسين بالهوية المدنية للدولة في مصر سعيا وراء تصالح شكلي مع السلفية المتشددة أو إرضاء للمؤسسة العسكرية, سيضر إن قام ضررا بالغا بغايات الثورة الشعبية العظيمة. فالسيد رئيس لجنة الخمسين ورئيس لجنة الصياغة بها يقومان بأفعال تثير تخوفاتنا. السيد رئيس اللجنة يجتمع بممثلين للسلفية المتشددة ولو من غير اعضاء اللجنة للتفاوض حول ما يسمي مواد الهوية, والسيد رئيس لجنة الصياغة تجاوز صلاحياته وألغي صفة مدنية من المادة التي وصلته من اللجنة الفرعية المتخصصة وكانت تنص علي أن مصر دولة مدنية ذات سيادة. ولا نعلم لمصلحة أي صنف من لا مدنية الدولة, الدينية او العسكرية, كان هذا العدوان الباغي من لجنة الصياغة. وتتواتر الأنباء عن تحصين المؤسسة العسكرية أو قياداتها من جور رئيس قادم وإن نفت مصادر من لجنة الخمسين, نفيا غير حاسم.
والكاتب يتفهم الحساسيات المتصلة بتحصين المؤسسة العسكرية وقياداتها, في ضوء توترات التاريخ الحديث بين حكم اليمين المتأسلم الذي كان يستهدف تقويض الدولة خاصة المؤسسة العسكرية والاستبداد بمقدرات الشعب والوطن. وتشهد كتاباتي السابقة بتقدير الدور الوطني المجيد للقوات القوات المسلحة لشعب مصر في نصرة الموجة الثانية الكبيرة من الثورة الشعبية العظيمة, واتفهم حرص البعض علي تحصين المؤسسة وبعض قادتها من غدر أي رئيس قادم أيا كان توجهه السياسي بسبب هذا التاريخ الحديث المتوتر بين رأس الدولة ووزير الدفاع. ومع ذلك فإن حرصي علي الدولة المدنية أعظم. ويتطلب الحرص علي الدولة المدنية عدم تقديس اشخاص, خاصة في الدستور, أيا ما كان التقدير لدورهم الوطني وعظمته, وإن كان مطلوبا تحصين المؤسسة العسكرية من تجاوز شخص ولو كان رأس الدولة المنتخب. والحل في هذه الحالة يكون في تقليص سلطات الرئيس علي أي مؤسسة محورية في الدولة المصرية شاملة القوات المسلحة والقضاء, ولكن دون تحويل أي مؤسسة إلي ارستقراطية مغلقة تعلو علي إرادة الشعب. علي التحديد, يعني ذلك التوازن الدقيق أن تبقي مؤسسات الدولة جميعا خاضعة لسلطان الشعب, إما بشكل مباشر أو من خلال ممثلية المختارين في انتخابات شريفة حرة ونزيهة. إلا أن مصدر التهديد الاخطر في نظري لمدنية الدولة في مشروع الدستور, قد يأتي من السماح للسلفية المتشددة بإضفاء صبغة دينية متطرفة علي الدولة والمجتمع في مصر.
الأصل أن الدولة كيان معنوي لا دين له, والدين خصيصة للإنسان الفرد علاقة بينه وبين الله خالق العالمين. علي سبيل المثال, لا دستور إنجلترا, غير المكتوب, ولا دستور الولايات المتحدة ينص علي دين للدولة. وللعلم فإن النص علي ان الإسلام دين الدولة في مصر في دستور1923 جري بإيعاز من حكومة الاحتلال البريطاني للملك فؤاد. وفي تعديل أدخله في1971 الرئيس الراحل السادات أكد هوية الدولة الإسلامية بإضافة مقطع مبادئ الشريعة في الدستور تملقا لتيارات الإسلام السياسي وتمريرا لنص فتح باب الترشح للرئاسة مدي الحياة.
ولنعرف مدي المصيبة التي قد تحل بمستقبل مصر من جراء هذه التضحية بمدنية الدولة, فما يصر حزب النور ممثل السلفية المتشددة علي تضمينه في الدستور هو النص علي كون الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع شاملة أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة. ما يعني تحديدا النص علي الأحكام الشرعية قطعية الثبوت والدلالة, والواردة في كتاب البخاري. وبهذا يصر السلفيون المتشددون علي أن يخضع المصريون لأحكام فقه بشري توقف عند أطول من الف ومائة عام خلت!
لقد انكشف المستور, فقد كان غرض السلفيين من المشاركة في هذه المرحلة الانتقالية هو ضرب مدنية الدولة والمجتمع, وإخضاعهما لنسخة متشددة ومعسرة من الدين الحنيف في دولة تنحي للدولة الدينية, بالتعارض مع الرغبة الحاسمة لجموع شعب مصر الغفيرة التي خرجت في يونيو/ يوليو لإسقاط حكم اليمين المتأسلم بقيادة الإخوان الضالين. وقد مكنتهم الحكومة المؤقتة من هذا الغرض الخبيث, إما خوفا أو تملقا. وبهذا تكون الحكومة المؤقتة, دقت المسمار الأكبر في نعش خريطة المستقبل.
إن إفساد الدستور لا سيما إهدار الطابع المدني للدولة سيكون خطيئة الحكومة المؤقتة القاتلة مفضية إلي تفجير خريطة المستقبل وهي مسئوليتها الأساس. وللحق تقع المسئولية علي الرئيس المؤقت عدلي منصور, رئيس لجنة الخمسين, ورئيس لجنة الصياغة. لو انتهت الأمور هكذا, بإسقاط صفة المدنية عن الدولة المصرية ستكون لجنة الخمسين قد اهدرت الموجة الثانية من الثورة الشعبية العظيمة التي قامت لإسقاط حكم اليمين المتأسلم. ويجب ألا ننسي أن الظروف الموضوعية لاندلاع الموجتين الأولي والثانية من الثورة الشعبية العظيمة مازالت قائمة إن لم تكن قد اشتدت بسبب أداء الوزارة الكسيح. وقد انكسر حاجز الخوف وذاق الشعب, خاصة أجيال الشبيبة صانعة الانتفاضات الثورية, حلاوة النصر, ولو المحدود, علي الطغاة. لذلك, فإن إخفاق السلطة المؤقتة القائمة في حكم المرحلة الانتقالية الثانية لإنجاح خريطة المستقبل سيستدعي لا محالة موجات تالية من الثورة الشعبية العظيمة مادامت مسبباتها الموضوعية قائمة.