بقلم :
عبدالعزيز الحشاش - الكويت
بالأمس ..
كانت تنظر لنفسها فتلعن حظها العاثر ..
( هناء ) اقتنعت بأن الكمال لله وحده، وبأنه لا يوجد ملاك على الأرض.
ولكنها كلما نفضت عن رأسها فكرة أن تكون جميلة، تذكرت كلام الناس الذين حولها عندما يقولون لها :
- يكفي بأنك ملاك بأخلاقك وأطباعك ..
مثالية هي، لا تزعل أحد، ولا تحب أن تجرح أحد بكلمة، تسعى للكمال في كل شيء، نظافتها، أناقتها، طريقة كلامها مع الناس، و تحب الخير للجميع ..
باختصار .. إنها هناء التي لطالما كانت مثالا للأخلاق الحميدة .. والجسد الممتلئ !
لقد عانت كثيرا من مشكلتها مع وزنها الزائد، رغم أن الجميع يشهد لها بجمال وجهها الهادئ. ولكن هناء لم يهنأ لها يوم، ولم يهدأ لها بال .. فقد كانت تود لو تعكس للعالم جمالها الداخلي في مظهرها الخارجي .
كل ما كانت تتلقاه أحيانا من تعليقات حول وزنها من خلال احتكاكها بالناس، سواء كانت تعليقات بقصد أو بغير قصد، كانت تحاول أن تتجاهلها وتقنع نفسها بأنها يجب أن تتأقلم مع هذا الوضع .
إلا الموقف الأخير الذي حدث لها .. فقد أحست بأنه حطم روحها من الداخل و قطع أوصال قلبها .
كانت هناء تحب ابن خالتها منذ الطفولة، لطالما رأت فيه فارس أحلامها و حبيب العمر الذي تتمنى أن تقضي جل حياتها معه. ولكن ابن الخالة كان مغرما في شقيقتها، التي لطالما ردد الناس بمجرد أن يعرفوا بأنها شقيقتها :
- الله خلق وفرق .. !
فعلا الله خلق وفرق ..
فشقيقة هناء كانت أقرب بجسدها لعارضة الأزياء، تسير فتنثر حولها سحرا و غنجا، عكس هناء ..
التي كانت تسير وتعزف لحنا أقرب إلى طبول الأحباش، و يهتز المكان بمجرد مرورها فيه.
لطالما كانت هناء تحسد بنات جيلها و قريباتها الجميلات على تلهف الشباب عليهن، بينما هي و على الرغم من حجمها الكبير كانت شبه خفية بالنسبة لهم. كم تمنت لو ترى نظرة إعجاب ولو مرة واحدة من رجل تزرع في داخلها ولو بذرة ثقة صغيرة تعيد الابتسامة على وجهها.
تقدم ابن الخالة لخطبة شقيقتها، وتزوجا. حضرت هناء العرس بقلب مكسور، و جرح عميق، علمت بأنه لن يشفى حتى تتخذ القرار .. واتخذته .
جلست هناء في غرفتها لوحدها، أقفلت الباب عليها، وجلست على سريرها بينما تتناثر حولها الصحف والمجلات، تقلب في صفحاتها و تغوص في محتواها، تبحث عن مخرج لها يساعدها لتصبح كعارضات الأزياء اللواتي لطالما حنقت عليهن من شدة رشاقتهن.
ووضعت لنفسها خطة ..
وسارت عليها.
كانت خطة هناء عبارة عن برنامج غذائي لتخفيف الوزن تعاقدت عليه مع إحدى الشركات التي توصل الوجبات إلى البيت في ميعادها، ثم التحقت في نادي صحي لتمارس برنامج مكثف و طويل لتخفيف الوزن أيضا واكتساب رشاقة جميلة. قاومت هناء، و أخذت وعدا على نفسها بأن تلتزم في نظام الرجيم هذا وأن تضعف وأن تكون جميلة.
استمر رجيم هناء نحو السنة والنصف، كانت تتعمد طوال هذا الوقت أن ترتدي الملابس الفضفاضة أو العباءة الواسعة حتى لا تعطي مجال لأحد بأن يلاحظ أنها بدأت تفقد جزءا من وزنها. صحيح أنها سمعت بعض عبارات الاستغراب ممن حولها حول ضعف وجهها لكن لم يطرأ في ذهن أحد بأن هناء سوف تتحول لقنبلة الموسم ..
نعم ..
قنبلة الموسم ..
فبعد عام ونصف خرجت هناء للعلن بجسدها الجديد، وقوامها الممشوق، ووجهها الضعيف الجميل. صعق الجميع، وانتشر الخبر بلمح البصر بين أوساط الناس و الأقارب ..
هناء السمينة أصبحت رشيقة .. جن جنون البعض، وغارت بعض الصديقات، بينما شل لسان الأهل.
أيام بسيطة وبدأ هاتف الأم لا يسكت من كثرة اتصالات الخاطبات، كل تريد هناء لابنها أو شقيقها ..
بينما هناء تبتسم فرحا، وتشعر بروحها تطير كالفراشة سعيدة بانجازها.
انتشر الخبر في البلد، وبدأت بعض البرامج والصحف تتسابق لعمل سبق صحفي معها وعن إرادتها القوية التي قادتها لطريق الجمال دون عمليات تجميل ولا شفط دهون، وكيف أنها انتقلت من اللا شيء إلى شيء يذكر ..
مرت الأيام، والخطاب يكثرون، والمعجبون يزيدون، والمعاكسون من الشباب لا يملون من مطاردتها إلى باب بيتها ..
بينما هي بدأت تشعر بأنها بدأت تفقد جزءا من حماسها نحو هذا التغير الكبير الذي طرأ في حياتها ..
أصبحت عروض الخطاب كثيرة، والمعجبون كثر، حتى بات لا يوجد حديث عند الناس غير جمال هناء و فتنتها وبأنها يجب أن تتزوج خوفا عليها من العين و من كلام الناس.
وفي يوم من الأيام، عادت شقيقتها للبيت تبكي وعباءتها على كتفها، وفي يدها حقيبتها. وعندما استفسرت منها أمها عما حدث .. أجابتها بأنها سئمت من العيش مع زوجها، فبعد انجابها لطفلها الأول وبعد أن زاد وزنها قليلا بدأ يعايرها بجسم هناء وكيف أنها رشيقة وكيف أنها أصبحت مثال في البلد لمن هن في مثل وضعها .. وكلما قالت له شيء رد عليها :
- اذهبي واضعفي مثل هناء ..
كوني مثل أختك .. صحيح الله خلق وفرق
شيء داخل هناء كان يضايقها، يكتم على نفسها، يغم روحها ..
كانت تشعر بأنها ..
ليست هي .. وحدة كريهة .. شعور بالخديعة والنفور من الناس ..
وقفت أمام المرآة .. نظرت طويلا لجسدها الجديد ..
دارت حول نفسها كالفراشة ..
وقفت طويلا تنظر في وجهها الضعيف ..
تذكرت كيف أن الناس التفتوا لجسدها ولم يلتفتوا لجمال روحها ..
تذكرت كيف أن ابن خالتها سطحي وتافه وكيف أنه تخلى عن أختها بمجرد أنها ازداد وزنها قليلا ..
تذكرت كيف أنها اشتاقت لهناء القديمة التي كانت تهتم بروحها أكثر مما تهتم لشكلها ..
رفعت سماعة الهاتف
.. طلبت الرقم .. رد عليها صوت مرحب :
- مطعم ... أي خدمه ؟
أجابته هناء بثقة وهي تبتسم :
- نعم ..
أريد أن أطلب كل ما في الـ menu لو سمحت ..
فأنا جائعة جدا
- تمت -
التعليق :
كلنا نُسحر بالجمال الخارجي ونهتم به , بل ربما يكون لدى البعض أهم إهتماماته , لكن لابد أن نتعلم أن هناك جمالاً خالداً هو جمال الروح .. طبعا جمال الخُلق والدين , يبقى الجمال الخالد والأهم ..,