أُدخلنا حجز قسم أول طنطا، مع من فيه من المجرمين والمتهمين أياما قليلة، ثم نُقلنا إلى سجن خاص بنا داخل القسم نفسه، ووجدنا فيه بعض الإخوان قد سبقونا إليه، بعضهم من مدينة طنطا، وبعضهم من كفر الزيات، ومن بسيون ومن شربين... كان منهم الأستاذ جمال الدين فكيه الإخواني القديم في طنطا، والأستاذ حسني الزمزمي القانوني، والمهندس شفيق أبو باشا مهندس الري في كفر الزيات، وحكمت بكير المهندس في كفر الزيات أيضا، وإبراهيم الباجوري من بسيون، والحاج محمود عبيه من شربين، وكانت تتبع الغربية، ولحق بنا الإخوان: أحمد العسال، ومصباح محمد عبده من طلبة المعهد.. وآخرون لا أذكرهم.
كان السجن عبارة عن حجرة واحدة متسعة معزولة عن العالم، لا يدخلها الشمس ولا الهواء إلا من نافذة واحدة صغيرة عالية، وكنا لا ندري شيئا عما يجري في العالم من حولنا، فلم يكونوا يسمحون لنا بدخول الصحف.
كان الأستاذ "الزمزمي" رجلا له طبيعة خاصة؛ فهو لا يستطيع أن يعمل شيئا لنفسه، حتى تقشير البرتقالة لا يحسنها!، لا بد أن تأتي مقشورة جاهزة، فلا غرو أن يكون الاعتقال أمرا صعبا وشديدا على نفسه، فعلى حين لم يكن يهمنا -نحن الشباب- ما نأكله وما نشربه، وعلى أي جنب ننام، وعلى أي فراش نرقد، ويكفي أحدنا أن يجعل ذراعه مخدة له.. نرى الأستاذ الزمزمي يعنيه كل هذا، ويؤرقه ويعذبه، ويحاول إخوانه جميعا أن يهونوا عليه ويساعدوه، ولكن طبيعته المدللة المرفهة لا تحتمل هذه الحياة الخشنة المضطربة، حتى ليكاد ينطبق عليه قول الشاعر:
خطرات النسيم تجرح خديْـــ ـــه ولمس الحرير يُدمي بنانه!
أما الحاج "محمود عبيه" فقد كان من دعاة الإخوان في شربين، وكان من المعجبين بالإمام "أبي محمد بن حزم"، ومن قراء كتابه "المحلى"، وقد تبنى آراءه في كثير من المسائل، حتى أصبحنا نسميه "ابن حزم".
وكنا نصلي الصلوات الخمس في جماعة، ويخطب أحدنا خطبة الجمعة، ونصليها داخل هذا السجن.
وقد مكثنا في هذا السجن الطنطاوي نحو أربعين يوما، حتى نودي علينا يوما بأن نتأهب للرحيل إلى القاهرة، لننضم إلى سائر إخواننا هناك. اغتيال الإمام البنا.. أراح الأعداء كثيرا وآلمنا أكثروفي يوم 13 فبراير سنة 1949م خرجنا من سجن القسم الأول بطنطا، لنرى الشمس ساطعة بعد أن غابت عنا هذه الفترة الطويلة، ولكن هذه الشمس سرعان ما أظلمت في وجوهنا حين طالعتنا الصحف التي حُجبت عنا هذه المدة، ووجدنا عناوينها الرئيسة تحمل هذا النبأ المفجع: "اغتيال حسن البنا" كما في جريدة الأهرام، أو "مصرع الشيخ البنا"، كما في جريدة المصري.
ضاقت الدنيا في أعيننا، وضاقت علينا الأرض بما رحبت، وضاقت علينا أنفسنا، وظننا ألا ملجأ من الله إلا إليه.. بهذا النبأ الذي كان صدمة هائلة لنا، وإن كنا نخافه ونتوقعه منذ أن اعتقل الإخوان، وتُرك قائدهم طليق السراح؛ ليكون صيدا سمينا لهم، ولا سيما أن الأستاذ رفض أن يختفي أو يذهب ضيفا لدى بعض القبائل العربية، أو تكون عليه حراسة مشددة.. رفض الرجل ذلك كله، مفوضا أمره وحراسته إلى الله؛ فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين.
عرفنا من الصحف أن الأستاذ استُدرج إلى جمعية "الشبان المسلمين"، ليلقى بعض الناس ضمن مساعي الوساطة التي كان يسعى إليها الأستاذ، وما إن غادر الدار حتى أُطلقت عليه رصاصات المجرم الأثيم، الذي استقل سيارة كانت تنتظره، الْتقط الأستاذ البنا -برغم إصابته- رقمها، وأملاه على رفيقه وصهره الأستاذ "عبد الكريم منصور" المحامي، وكانت هي المفتاح الذي جرّ المجرمين إلى المحاكمة فيما بعد.
كان يمكن أن يُسعف الأستاذ، وأن يوقف النزيف، وتنتزع الرصاصات من الجسد، بقدر الله ووفق سنته، ولكن وقع إهمال جسيم متعمد، فظل دم الرجل ينزف، ولا يقدم له الإسعاف السريع اللازم، حتى قضى نحبه، وتحققت له "الموتة الحسنة"، التي كان يدعو الله أن يحققها له، وقد فسرها في خطابه في طنطا: "أن يُفصل هذا الرأس عن هذا الجسد في سبيل الله"، وصدق الله إذ يقول: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 23).
لم يجد حسن البنا شهيد الظلم والطغيان من يشيع جنازته، بل من يحمل نعشه، حتى قيل: "إن الذي حمله النساء"، ولم يجد والده الصابر المحتسب العالم المحدث الجليل الشيخ "أحمد عبد الرحمن البنا" من يعزيه في ابنه الفقيد، الذي كان ملء السمع والبصر، فقد كان بيت الفقيد محاصرا برجال الأمن، وكان كل من يقترب منه أو يحوم حوله يُقبض عليه. رجل واحد -فيما نعلم- هو الذي ذهب للعزاء، وهو الزعيم القبطي المعروف "مكرم عبيد باشا".
وهكذا قتلوه أكثر من مرة؛ قتلوه بإطلاق الرصاص الآثم، وقتلوه بترك الإسعاف المتعمد، وقتلوه بمنع تشييعه والعزاء فيه، وذلك كله ليتضاعف أجره ومثوبته، ويعلو مقامه عند الله:
جزى الله خيرا من إمام وباركت يد الله في ذاك الأديم الممزق
في حين كان الحزن مخيما على أبناء مصر، كان الناس هناك في الغرب، في أوربا وأمريكا خاصة يحتفلون بهذه المناسبة السعيدة عندهم؛ قتل حسن البنا، وغيابه عن الساحة، فقد كانوا هم أعرف الناس بقيمة الرجل، وقيمة دعوته، وعظم خطره عليهم، كما أعلمتهم أجهزتهم الراصدة المراقبة عن كثب. فلا عجب أن شربوا أنخاب الخمر، وتبادلوا التهاني، وأظهروا السرور؛ وهو ما لفت نظر الكاتب الكبير الأستاذ "سيد قطب"، الذي كان في بعثة إلى أمريكا في ذلك الوقت، وتصادف وجوده معهم، ومشاهدة الفرحة في أعينهم، فسألهم عن السبب، فأخبروه باغتيال "حسن البنا"، وهذا ما شد انتباه الأديب الكبير الشاعر الناقد، سيد قطب إلى حسن البنا ودعوته، ونقله بعد ذلك من كاتب كبير إلى داعية كبير، وكتب فيما كتب عن "حسن البنا وعبقرية البناء".
لم يكن حسن البنا مجرد رئيس جماعة، ولو كان كذلك لأمكن بسهولة أن تستبدل الجماعة رئيسا برئيس، ولكن علاقته بأنصار دعوته علاقة الأستاذ بتلاميذه من الناحية العقلية، وعلاقة الشيخ بمريديه من الناحية الروحية، وعلاقة الأب بأبنائه من الناحية العاطفية، وعلاقة القائد بجنده من الناحية التنظيمية.
وكان كل من عاشر حسن البنا يحمل ذكريات عنه؛ مواقف يحكيها، أو كلمات يحفظها، أو نكتة يرويها، أو لفتة إنسانية يتحدث عنها.
وهو الذي بذر البذرة، وتعهدها بالرعاية حتى نمَتْ وأورقت وأزهرت، وامتدت جذوعها في الأرض، وفروعها في السماء، وكان المرجو أن يمد الله في حياته حتى تؤتي أكلها بإذن ربها.
ولهذا كان فقده في هذا الوقت خسارة كبيرة على الجماعة، وخسارة كبيرة على الوطن، وخسارة كبيرة على الأمة، ولكن هذا قدرُ الله الذي لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، وقد بذر الرجل البذرة، ووضع الأساس، وارتفع البناء، وربى جيلا من الرجال قادرا على أن يحمل اللواء، ويمضي بالسفينة رغم تلاطم الأمواج، ولن يتخلى عن دعوته، وإن سقط القائد في الميدان.
ونحن أناس لا نرى القتل سبة إذا ما رأته عامرٌ وسلولُ
إذا مـات منا سيدٌ قـام سيد قئول لما قال الكرام فعولُ
كان حسن البنا من الأفراد القلائل الذين يمن بهم القدر على الأمم في فترات وهنها وهوانها، لتنهض من كبوة، وتصحو من غفوة، وتُبعث من همود، وتتحرك من جمود، وتقوم من قعود.
وكانت أمة الإسلام بعد سقوط خلافتها، وتمزق وحدتها، وضياع هويتها، في المرحلة التي عبر عنها الحديث الشريف بأنها "غثاء كغثاء السيل" رغم كثرة عددها، ولكنها كمّ بلا كيف. والغثاء: ما يحمله السيل من حطب وخشب وعيدان وأغصان وأوراق... وغير ذلك من الأشياء، التي لا تجانس بينها، ولكن يجمع بينها الخفة والسطحية من ناحية، وأنها ليس لها هدف، ولا مصب معلوم، ولا مجرى مرسوم؛ فهي تذهب يمنة ويسرة كيفما اتفق.
وكذلك الأمة في المرحلة "الغثائية" من حياتها لا تجانس بينها، ولا يجمعها غير السطحية والخفة، وفقدان الهدف الواحد، والطريق الواحد.
جاء حسن البنا وأمتنا الكبرى هكذا، فنفخ فيها من روحه لتحيا، وصدع فيها بأعلى صوته لتستيقظ، وسقى شجرتها بدمه لتنمو وتمتد، وقد جمع الله فيه من المواهب والفضائل ما تفرق في كثيرين؛ فهو العالم الداعية المربي السياسي المصلح المجمِّع المنظم، كما قيل: "كل الصيد في جوف الفرا".
لقد مات وهو ابن الثانية والأربعين، ولكن كما قال ابن عطاء الله في حِكمه: "رُبَّ عمر قصرت آماده واتسعت أمداده".
لم تواتِه الفرصة ليؤلف كتبا علمية كبيرة، ولكنه (ألف) رجالا كبارا، ملؤوا الدنيا بالكتب والعلم النافع، حسبه هؤلاء الرجال في أقطار شتى! وحسبه الدعوة العالمية التي جعلها تمتد شرقا وغربا، شمالا وجنوبا! وحسبه الذكر الحسن الذي أضاف إلى عمره أعمارا!.
سأل أحد الصحفيين حسن البنا -ضمن عدد من كبار الشخصيات-: "من أنت؟" وكان جوابه: أنا سائح يبحث عن الحقيقة، وإنسان يفتش عن معنى الإنسانية في الناس بمصباح (ديوجين)، أنا مسلم أدرك سر وجوده، فنادى في الناس: {إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: 162، 163).
ولقد قلت أبياتا خاطبت بها حسن البنا صدّرت بها ديواني "المسلمون قادمون" لا بأس أن أذكرها هنا:
لك يا إمـامي يا أعــزَّ معـلم
يا حامل المصباحِ في العصرِ العمي
يا مـرشدَ الدنيـا لنهْجِ مـحمـد
يا نفحة مـن جـيل دار الأرقـمِ
شيدت للإسـلام صرحـا لم يكن
لـبناته غـير الـشباب الـمسلمِ
وكتبت للـدنيـا وثيقـة نصـرة
وأبيت إلا أن توقِّـــع بالــدمِ
حسبوك مِـتَّ وأنت فينا حـاضـر
مـا مـاتَ غير الـمستبد المجرم!
حسبوك غِبتَ وأنت فينـا شـاهـد
نجـلو بنهجـك كـل درب مـعتـمِ
نَـمْ في جوارِ زعيمك الهادي، فمـا
شــيدتَ يـا بنـَّاءُ لـم يتهـدمِ
سيظل حـبُّك في القلوب مسطَّـرا
وسَناك في الألباب، واسمك في الفمِ